حجاب الممكن... واقعية المهزوم..

حجاب الممكن...  واقعية المهزوم.. 

الجزء الثاني 

د. مهند العلام 

02/06/2025

بعد قرون من الانحطاط والتأخر والتخلف عن أمم الأرض المختلفة وكرد فعل على الهزائم السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية نشأت دعوات "الواقعية" في العقل الإسلامي المعاصر والتي ركّزت على العمل والإنتاج واللحاق بالحداثة.

مما أدى إلى انزياح الخيال نحو التكنوقراطية والتجريبية وأدى الى تبني الواقعية كموقف براغماتي لا فلسفي، اذ لم تكن الواقعية المعاصرة في الفكر الإسلامي نتيجة "نضج فلسفي"، بل جاءت كخيار براغماتي دفاعي وسطحي، تميل إلى تسويغ الأمر الواقع بدل نقده وتعكس الهروب من الخيال الذي يُربك المشروع السياسي أو الديني المعاصر.

وبسبب الخشية من تفكك الهوية في زمن الحداثة وما بعدها وفي ظل العولمة التي ساعدت بتثبيت أنظمة سياسية هشة لتحكم مجتمعات أكثر هشاشة فغالبًا ما تكون الواقعية او يُنظر إليها كحامية او ضامنة ومصونة لهويات الجماعات المغلقة والتيارات المحافظة التي تسعى الى حفظ ارثها الفكري من الخيال الذي يفتح الباب للتمثلات غير المنضبطة والمقارنات غير المقيدة، فالخيال يُربك الثوابت والتفكر يُفقد النظام الديني سلطته، لذا كانت الواقعية عندهم مدخلاً لهذا الضبط الرمزي.

  • فلماذا يُدعى إلى الواقعية إذن؟
  • وهل الفكر الإسلامي المعاصر واقعي أم متخيل؟
  • وما هو دور الفكر الديني في تفسير الواقع كنسب الظواهر الاجتماعية لإرادة الله بدلاً من الأسباب المادية؟
  • ولماذا غاب الفكر النقدي أمام النقل؟ 
  • وماهو دور الغرب في هيمنة العقلانية والشك المنهجي لمصادر ديننا وفقهنا؟
  • وماهو تأثير الواقعية السياسية والاقتصادية في التعامل مع الدولة الحديثة، أو مع الغرب بينما هيمنت المواقف العاطفية والرمزية؟
  • وما هو دور الإعلام والتعليم في صناعة الفكر، أو الخيال في المجتمعات الإسلامية؟ وهل الإعلام أداة لإعادة إنتاج الأوهام كالفخر بالتاريخ؟ وهل الإعلام قادر على خلق واقع متخيل ما بعد الحقيقة؟
  • وما هو دور التعليم الديني التقليدي في تعزيز اليقينيات الحسية الواقعية؟ ولماذا ساد على نطاق واسع التعليم التلقيني مقابل النقدي؟
  • وهل الخيال ضرورة حضارية أم خطر على الوعي؟
  • وهل المسلمون يعانون من أوهام الماضي؟ وهل الغرب غارق في أوهام المستقبل؟
  • وكيف يمكن التوازن بين الواقعية والخيال، وبين الفكر النقدي والإيمان.

الواقعية هي المصلحة، ورؤية الأشياء على ما هي عليه، وهي الموازنة الحسية في تصوير الواقع، والواقعية عند الفقهاء القدامى تمثلت بقواعد أصولية كمثل "لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان"، وعند الفلاسفة في "مطابقة الصورة الذهنية لما في الخارج".

وتمثل الواقعية عند المسلمين أسس لصراع بين القبول بالواقع ومقاومته، فالواقعية في الفكر السياسي الإسلامي برزت في نظريات تقليدية كالمُلك، الشورى، الإمامة والتي غالبًا ما تجاهلت الواقع المليء بالتعدد والصراعات، وكذلك في الخطاب السياسي الحديث كإسلامي أو قومي، في حين يعيش المسلم بين ازدواجية بين فكرة مجتمع الصحابة وعصر السعادة المثالي وبين واقعية الفشل اليوم.

لم تُصَغ الواقعية كمصطلح فلسفي مستقل في التراث الإسلامي، بل كانت ممارسة ضمنية في مقولات فقهية واجتماعية. اذ رأى الفقهاء في الواقعية أعظم قوة إنسانية قادرة على الكشف عن الحقيقة الداخلية للنص حين نزعوا إلى التعامل مع "اليقين" لا "الظن"، ولم يُختزل حضور الواقعية في الإسلام اليوم بمجرّد الاعتراف بالوقائع، بل ظهر في فقه المقاصد، وأصول الضرورة، والواقعية السياسية، رغم أن الخطاب العقدي الذي ظل مثاليًا كان الفقهاء في العصور الأولى للحضارة الاسلامية أكثر ادراكا من الفقهاء المعاصرين حين تعاملوا مع الحيل، والضرورات، والمصلحة، بينما الواقعية في الفكر الفقهي الحديث غالبًا ما تكون متخشبة، ولا تعكس تغيّر الزمن.

لكن في التصوف، تبرز الواقعية بشكل مختلف عما كان الفقهاء يتبنونه، ويظهر ذلك جليا بمقولة "رؤية الحق في الخلق"، ولذا تم انكار واقعية الكثرة لصالح وحدة الوجود، مما اعاد تعريف الواقعية ضمن أفق وجودي رمزي لا مادي.

فالواقعية عند الغزالي ليست حسيّة، بل كشفية، ولا يثق الامام الغزالي بالواقع الحسي المحض، بل يعتبره مستوى أدنى من مراتب الإدراك، ففي كتابه "المنقذ من الضلال" يقول: "فأبصرت أن الثقة بالحواس غير مأمونة، فقلت لا ثقة بالحس، فلعل ما أظنه علماً ليس بعلم، بل هو جهل مركب."

وهنا يقدم الغزالي مفهومًا بديلًا للواقعية، وهو الواقعية الذوقية أو الواقعية القلبية، أي إدراك الأشياء على ما هي عليه بواسطة صفاء القلب وكسر حجب النفس، ويسمي هذا بالعلم اللدني أو النور الذي يقذفه الله في القلب وهو أسمى من الخيال والحس والعقل جميعًا.

بينما فهم المسلمون المعاصرون وتبنوا في أفكارهم الواقعية باعتبارها انخراطًا في العالم كما هو، ثم تطورت عندهم إلى براغماتية نفعية وإلى واقعية سياسية ثم تحولت هذه الواقعية وانكفات الى المحافظة على "الممكن"، مما جعلها أبرز أداة عندهم لتبرير الهزيمة او الهيمنة.

فالواقعية المعتمدة اليوم كمنهج في السياسة والعلم تكون أحيانًا بلا أخلاق لصالح المثالية النصية أو تحكيم الشرائع الدينية بينما الواقعية كمنهج فلسفي وفني وسياسي حاولت تصوير الواقع كما هو، وفي السياسة الواقعية تتجلى في سياسة المصالح وفي الفكر تقوم الواقعية العلمية على التجربة لا على النقل أو العقيدة.

واستمر اصدار الدعوات المتكررة إلى "الواقعية" في الخطابات الفكرية والأدبية الإسلامية كموقف دفاعي تُملِيه التجربة التاريخية المأزومة، اذ صيغت الواقعية كموقف ضد الخيال، لا كنظام معرفي مستقل.

أي إنها تمثل في جوهرها امتثالا للمتاح، بمعنى الخضوع لشروط الواقع باسم الانضباط العقلي، رغم أن واقعهم سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا في ذاته مأزوم ومتصدّع.

وهكذا، اصبحت الواقعية عندهم مرادفًا للركون، واختزل الفكر في التبرير، وطرد الخيال بوصفه بابًا للفوضى، ولا غرابة في أن نجد مفكرين إسلاميين معاصرين وحتى من الدعاة من يتهيب من كل إنتاج رمزيّ غير تقريري، أو كل رؤية تتجاوز الواقع الحسي إلى الممكن التخيلي.

وقد عزز ذلك طروحات غريبة وجديدة لتفسر الدين تفسيرا واقعيا فهذا عفيف عبد الفتاح طبارة صاحب كتاب روح الدين الإسلامي حين تناول جوهر الإسلام من منظور عقلاني سعى إلى تقديم الإسلام كدين يجمع بين الإيمان والعقل، اذ شدد طبارة على أن الإسلام دين "واقعي" يتعامل مع الحياة بمختلف جوانبها ويُراعي الطبيعة البشرية واحتياجاتها ويُبرز أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد، مما يدل على مرونتها وقدرتها على التكيف مع مختلف الظروف والأزمنة.

في مقاربة هذا المقال لمسألة العلاقة بين الواقعية والخيال ومكانتهما في تفكيرنا الإسلامي المعاصر، وهو يمسّ جذرًا من جذور الأزمة الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي، والإجابة تستدعي تحليلًا معرفيًا متعدد الأبعاد تاريخيًا وثقافيًا ونفسيًا وحتى اجتماعيًا.

ومن المهم أيضا إعادة التفكير في الحدود الفاصلة بين ما هو "واقعي" وما هو "متخيَّل"، فإشكالية الخيال يجب طرحها بوصفها مصدراً محتملاً للمعرفة، لا سيما حين تُعبّر المخيلة عن تصوّرات رمزية تستبطن اسس منطقية غير مباشرة قد لا تخضع لمعيار التحقق الحسي أو العقلي لكنها تفتح أفقاً جديداً لفهم الواقع عبر التأويل لا عبر البرهان فقط.

وعليه فإن الخيال لا يُعدّ مجرد بنية ذهنية منعزلة عن الواقع، بل ينتج عوالم ممكنة أخرى بعيدة او قد تتفاعل مع العالم الواقعي وتعيد تشكيله من خلال الرمز والمعنى بما يشكّل تحدياً للمفاهيم التقليدية للوجود. 

وعليه فإن الخيال لا يقف على النقيض من الواقعية أو العقلانية، بل يعمل بوصفه وسيطًا رمزيًا يعيد صياغة العلاقة بين الذات والعالم، بين الفكر والوجود، وبين المجتمع واحواله.

إن إعادة فهم الخيال في ضوء ذلك لا يعني تنصيب الأوهام محل الحقيقة، بل الكشف عن الطبيعة التأويلية والرمزية للواقع ذاته، بما يستدعي تجاوز الحدود الصلبة بين ما هو واقعي وما هو متخيَّل.

فالخيال هو ما يجعل التجربة ممكنة؛ فهو القوة التي تدمج الافتراضات الحسية المحدودة مع المقولات العقلية مما يمنح الخيال وظيفة بان يصبح له قدرة خلاّقة ترتقي على انه مجرد تصور.

وعليه فلا بد من خيال نقدي لا هروبي ومن واقعية تحليلية لا تبريرية، وبهذا فقط يمكن تجاوز الأوهام العالقة في تفكيرنا سواء تلك التي ترتدي قناع الدين أو تلك التي تتخفى خلف شعار الخيال كتهديد للهوية المغلقة.

اذ تكمن أعمق جذور هذا النفور من الخيال عندنا في الخوف من تفكك الهوية، فالخيال بحكم طبيعته لا يعترف بالحدود ولا ينضبط بنمط واحد، بل إنه يعيد تركيب العالم ويستدعي الماضي بصيغة الممكن وينحت صورة مغايرة لما سيكون، وهذا يُربك الخطاب الديني المؤسسي القائم اليوم الذي يرنو إلى هوية صلبة مغلقة وإلى سردية خطية لا تتسع للطبقات الرمزية المتعددة.

وهذا ما أُنتج حالة من العداء تجاه كل ما هو تخييلي أو تأويلي أو استنباطي، وصار الخيال يُعامل بوصفه تهديدًا للمألوف، والوهم عنوانًا لأي خروج عن المركز السردي للسلطة الدينية أو السياسية، بل حتى الأدب أصبحت الواقعية الاجتماعية النمطية معيارًا فيه للجدية في حين يُوصم الأدب الرمزي باللامسوؤلية أو يتهم بالانفصال عن الواقع.

لكن الخوف من الخيال عند المسلمين ليس دينيًا بطبعه، بل جهل فكري واعتقادي، وهو ما لم يكن كذلك في الأزمنة الإسلامية الحضارية الذهبية في العصور العباسية والأندلسية والعثمانية، حين كان الخيال أداة للمعرفة وكان الوهم مادةً للنقد، أما في عصورنا الانكفائية الحديثة فصار الخيال ترفًا والوهم خطرًا والواقعية قيدًا ضروريًا واساسيا لضبط الخطاب الموجه.

في حين استخدم الغرب الخيال كوسيلة لتخيل العوالم البديلة كالخيال العلمي والخيال السياسي ساهم في صياغة رؤى سياسية واجتماعية جديدة، وساعد في تقدم التكنولوجيا. لكنه في الوقت عينه استعمل سياسات واقعية على حساب القيم حين دعم الديكتاتوريات واستعمر الشعوب واستعمل الواقعية المفرطة لتتحول إلى براغماتية بلا ضمير، ولم ينجُ الغرب من أوهامه كوهم التقدم الدائم ووهم الليبرالية الكونية والعولمة ونهاية التاريخ، ومن وهم السيطرة التقنية والذكاء الاصطناعي كخلاص جديد، وقدمت لنا الحداثة الغربية وهم الواقعية المطلقة وخرافة العقلانية الكاملة بوصفها الحيادي الكاذب اذ هي غالبا ما تكون محمّلة بإيديولوجيا السيطرة والاستهلاك.

وعليه فلابد من احياء ضرورة تحرير الخيال الإسلامي من قبضة النقل والفقه المغلق ونمطية التقليد وعقلانية وواقعية الفكري الغربي، ليعود كما كان قوة تأويل وتجديد، وعلينا أيضا ان نميّز بين "وهم النفس" وبين "صدق الكشف"، وان نسعى إلى تنقية الباطن من أوهام الكثرة والمادية، وان نبعد الأوهام السياسية والدينية كوهم الأمة الواحدة المتناغمة والانتظار وقداستنا السياسية.