حجاب الممكن: أزمة الخيال والوهم في العقل الإسلامي المعاصر

حجاب الممكن:  أزمة الخيال والوهم في العقل الإسلامي المعاصر.

الجزء الأول. 

د. مهند العلّام 

25/05/2025   

هنالك أزمة بالغة العمق والدقة في الفكر الإسلامي المعاصر وهي في ادراك مفهوم الخيال والوهم بين حجاب سلطة الواقع ومخاوف الهوية، اذ أصبح الفكر الإسلامي المعاصر على اختلاف أطيافه سجينَ معادلةٍ مُربِكة تتنازعه نداءات "الواقعية" المتصاعدة، وبين هاجس "الخيال" الذي يُنظر إليه في الغالب بريبةٍ أو ازدراء.

وهذا الادراك الذهني يكشف عن أزمة بنيوية عميقة لا تتعلق بالمنهج فحسب، بل بهوية العقل المسلم ذاته، وهو يُعيد تعريف علاقته بالصورة المتخيلة والرؤيا والاحتمال والممكن والواقع والمستقبل في الزمن المعاصر.

اذ تشكّل مفاهيم الخيال والأوهام والواقعية ثلاثية تأسيسية في البنية المعرفية والفكرية لأي حضارة إنسانية، وقد شهد التاريخ الإنساني تذبذبا بين لحظات العقلانية والغيبية، وبين نزعات الواقعية والمثالية، كانت في جميعها مرتبطة بقيامة وتطور ونمو تلك الحضارات وبين موتها وافولها.

وبالرغم من ان هذه المفاهيم ضمن الأطر الإسلامية والغربية تكشف عن اختلافات بنيوية تتجاوز الشكل إلى المضمون الفلسفي والرمزي، ففي لحظات النمو الحضاري تشكل مفاهيم الاوهام والرؤية الكونية والخيال الخلاّق مرتبة متقدمة في الوعي الاجتماعي والفردي بصور متعددة من التفكير الإبداعي التقني والإنساني، بينما تسود في فترات الانحلال والجمود الحضاري للمجتمعات والأمم الواقعية في التفكير.

في الفكر الإسلامي المعاصر هناك كراهية لمفهومي الخيال والوهم بسبب اما إرث النزعة النصية والتقليد السلفي، فمنذ القرن الثامن عشر ومع صعود الحركات السلفية والصحوة والدعوة وما يعرف بالإسلام المعرفي المعاصر بدأ يُعاد تأطير الدين بوصفه بنية نصية ذات يقينيات نهائية، لا مجال فيها للتأويل الرمزي أو للخيال الاستنباطي، فأصبحت كل صورة غير نصية مدخلًا للوهم أو البدعة، وهذا أدى إلى ربط الخيال بالبدعة، والأوهام بالخرافة، وبالتالي كراهيتهما بوصفهما تهديدًا لنقاء العقيدة.

او ان هناك ارتباط تاريخي بين الخيال والأساطير الشعبية، ففي الوعي الجمعي يرتبط الخيال بالكرامات المبالغ بها، وبالروايات الصوفية، وبالأساطير المخالفة للواقع في التراث الشعبي، فيكون رد الفعل المعاصر وخاصة لدى تيارات الإصلاح الإسلامي هو الانكار لهذا الإرث بوصفه رجعيًا ولا عقلانيًا.

او ان هناك سوء تمييز بين "الوهم" كخداع، و"الخيال" كأداة للمعرفة، فالعقل الإسلامي المعاصر كثيرًا ما يخلط بين الوهم والخيال، ويضعهما في سلة واحدة، وقد أدى هذا الخلط المفاهيمي الى جعل المفكرين المحافظين ينبذون الخيال بوصفه مرادفًا للوهم. وقد تراجع الخيال في الفكر الفقهي المعاصر بعد ان ساد تيار يُقصي الخيال بوصفه مدخلاً للبدعة، وحلّ محله التكرار والنقل وأصبح الخيال خيانةً للنص لا أداةً لفهمه.

فما هو الخيال؟، وما هي الأوهام؟ وما هو التصوّر او الوهم الجميل؟ وما هي الواقعية من حيث اللغة والدلالة في تراثنا الفكري الإسلامي، ثم في الفكر الغربي؟ وكيف يتجلى الخيال في الفكر والفن والدين؟ وما دوره في بناء الوعي أو تغييب العقل؟ وهل الأوهام هي خرافات ام معتقدات شعبية؟ ام هي تصورات خاطئة عن الذات والعالم؟ ولماذا فَقَد الخيال مكانته كقوة معرفية إبداعية في الوعي الإسلامي الحديث؟

في سلسلة فكرية جديدة تناقش ثلاثية "الخيال والوهم والواقع" في الفكر الإسلامي والغربي المعاصر وتحاول الإجابة على تلك الأسئلة، بل وتساعد على اثارة أسئلة أخرى حول كيفية تشكيل خيالنا الجديد.

في تراثنا الفكري الإسلامي لم يكن الخيال مرادفًا للوهم، بل أداةً من أدوات الإدراك الذهني، ففي أيام النمو الحضاري لا يُعدّ الخيال محض زخرفا ذهنيا، بل هو عند ابن عربي والسهروردي والفارابي هو ملكة معرفية عليا، وليس خداعًا حسّيًا. هو البرزخ الكاشف بين الغيب والشهادة أي بين المعقول والمحسوس، يُستبطن به الحق في صورة، ويُرى فيه الغيب بلغة الظاهر. فالخيال المتصل والخيال المنفصل يشكلان أداتين للكشف الوجودي.

والخيال عند المشائين وُصف بأنه إحدى قوى النفس التي تجمع بين الحسي والمعقول. ويرتقي الخيال إلى مرتبة "البرزخ الوجودي"، وهو المقام الذي تتجلى فيه الصور الحقّة للغيب، دون أن تقع في فخّ الحس أو تجرد العقل.

بينما عند ابن سينا، يعمل الخيال كقوة وسطى، تركّب الصور وتستدعي الذاكرة، بما يجعل له دورًا تأسيسيًا في الإدراك البشري لا يقل عن العقل، وللخيال وظيفة معرفية تربط بين العقل والمادة، فالخيال في النفس الفاعلة يركّب الصور ليشكل مدركات عقلية. والخيال لا يُرفض، بل يُقدّس حين يكون وسيلة لتجاوز ظاهر الحس والتأمل في المطلق.

في حين رأي الإمام أبو حامد الغزالي في العلاقة بين الوهم والخيال كمركّب وعميق للغاية، ويجب تحليله في ضوء مشروعه المعرفي والروحي كما يظهر خصوصًا في كتبه كالمنقذ من الضلال، وإحياء علوم الدين، وميزان العمل. اذ ميز وفرق منهجيا بين الوهم المنبوذ والخيال المعرفي، فالخيال عنده قوة نفسية فطرية، تُركب الصور وتحفظ المحسوسات وتستدعيها، وتُعين الإنسان على إدراك ما لا يراه حاضرًا. وفي كتابه ميزان العمل، يُشير إلى الخيال بوصفه آلة تشكيل الصور، ويجعله من الأدوات المساعدة للفكر، لكنه يحذّر من الاعتماد عليه وحده في معرفة الحقائق العليا، وهو يرى أن الخيال قد يكون وسيلة للتمثيل الذي يُقرّب المعنى للذهن، لكنه ليس مصدرًا للحقيقة النهائية.

أما الوهم، فيُفهم عند الغزالي أو فخر الدين الرازي بوصفه ميلًا باطنيًا يحجب الحقيقة، ويستوجب المجاهدة، وهنا يبرز تفريق الامام الغزالي بين وهم النفس ونور اليقين، أي بين الانزياح وبين اليقين النصي. فالوهم عند الغزالي، هو قوة تُرَجّح معنى لا تدركه الحواس ولا يتبرهن بالعقل، بل يقع في النفس خفيةً وقد وصفه بأنه أعظم الحجب التي تمنع الوصول إلى الحقيقة. ويبيّن أن الوهم قد يتسلل حتى إلى العقلاء والعلماء، وهو منبع الاغترار بالمعلومات الظنية. فهو معيق ومضلّل، خاصة إن لبس لبوس العقل أو الدين، فالأوهام النفسية تقف حائلًا بين القلب والحقيقة ويجب كسر حُجب الوهم بالزهد والمجاهدة.

في إحياء علوم الدين، يستخدم الغزالي الخيال بشكل تربوي عميق، خصوصًا حين يتحدث عن "الصور الأخروية"، وعذاب القبر، ونعيم الجنة والنار. فهو لا يطرح هذه الصور كحقائق مادية، بل كوسائل لتهذيب النفس وتقريب المعاني المجردة للعوام، وهذا يوحي بأنه يميز بين الخيال الصالح الذي يُرشد، والخيال الفاسد الذي يُضلّ.

في حين شهد الفكر الإسلامي الحديث ومع احتدام تحديات التحديث والاستعمار والعلمنة إعادة نظر عميقة في أدوات المعرفة وفي مقدمتها مفاهيم الخيال والوهم والواقعية، فبعد قرون من التوجّس من الخيال واتهامه بالانتماء إلى دائرة الأسطورة والبدعة، عاد المفكرون المسلمون المعاصرون ليعيدوا إليه مكانته بوصفه أداةً معرفيةً في مواجهة الواقعية المادية الصلبة أو الإيديولوجيا الاستهلاكية الحديثة.

اذ وصف محمد إقبال الخيال الفعال هو الوسيط بين الإنسان والمطلق. اي هو الذي يصوغ التجربة الدينية لا كحدث عاطفي، بل كإدراك كوني، اذ يرى إقبال الخيال كقوة خَلْقية لا وهمية وهو ما يسميه أحيانًا "الخيال البنّاء الذي يربط الإنسان بالله عبر التجربة الشعرية والوجدانية.

في حين شرح محمد أركون علة الفكر الإسلامي الحديث حين قال "لقد اغتُرب العقل الإسلامي عن الخيال واعتبره مقرًّا للوهم والبدعة، ففقد بذلك القدرة على نقد سلطاته الرمزية. اذ ينتقد أركون ما يسميه قمع الخيال في التراث الفقهي والأصولي، ويرى أن السلطة الدينية قلّصت مساحة الرمزية والتأويل، مما جعل الفكر الديني جافًا غير قادر على التجديد. ووصف الوهم بأنه منتَج اجتماعي–ديني تتبناه المؤسسات خصوصًا المؤسسات النصية المغلقة. وفي نقد العقل الإسلامي يربط الوهم بأوهام العقل الديني التقليدي الذي يمنع التأويل والانفتاح، وان إسهام الوهم عند أركون ليس فرديًا، بل نظام معرفي مسيطر على اللاوعي الجماعي.

في حين دعا ناصيف نصار بانه لا يمكن تحرير العقل العربي دون تحرير الخيال من قبضة التراث الفقهي المغلق، اذ يرى أن الفكر العربي يعاني من أزمة في القدرة التخيلية لأن أغلب أنساقه لا تزال تحكمها سلطة النقل واليقين المطلق. ويرى أن الفكر العربي يعيش في وهم الهوية المطلقة، حيث تتم جعل الذات اسطورة ونفي التاريخ، وفي طريق الاستقلال الفلسفي يؤكد على أن الخروج من الوهم لا يكون إلا عبر تفكيك ما بني على التقديس المعرفي.

ويقر عبد الوهاب المسيري بان الخيال هو الحصن الأخير أمام الإنسان المسلم في مواجهة التقنية الحداثية. اذ يرى المسيري أن الإنسان الحديث مهدد بالتحوّل إلى كائن مادي مُختزل، ويرى في الخيال وسيلة للمقاومة الرمزية. لذلك نراه كثيرًا ما يمتدح الخيال الرمزي في الأدب الإسلامي والمقاوم.

وعليه لم تعد مفاهيم الخيال والوهم والواقعية في الفكر الإسلامي الحديث مجرد أدوات معرفية، بل ساحات صراع على معنى الإنسان. فالخيال لم يعد ترفًا، بل شرطًا للحرية والتجديد. ولم يعد الوهم وهمًا معرفيًا فقط، بل نظامًا سلطويًا ومغلقًا. إنَّ هذا التحول يستوجب قراءة جديدة لأصولنا وتحديثًا للغة التخييل في الخطاب الإسلامي بعيدًا عن الانغلاق أو الابتذال. فالخيال في التراث الإسلامي كان واضحا جليا في التصوف وفي الأساطير الشعبية والقصص كألف ليلة وليلة وحي بني يقظان.

لكن الفكر الإسلامي المعاصر حين وقع في صدمة الحداثة والعلمنة والعسكرة، أسقط الخيال إلى درك المريب أو المضلّل، وجعله رديفًا للوهم ثم جعل كليهما منافيًا للعقلانية أو نقيضًا للواقعية. وهكذا غاب "الخيال الفعّال" بوصفه أفقًا معرفيًا، وحلّ محله تصوّر اختزالي يرى في الخيال انحرافًا رمزيًا وفي الوهم خداعًا جماعيًا ينبغي اجتثاثه.

فتراجع الخيال في الفكر المعاصر مقابل سطوة النص الجامد الذي ساعد في صعود الأوهام في العالم الإسلامي كأوهام التفوق الحضاري الماضي وأوهام المؤامرة، والخلاص بالمهدوية، أو بالخلافة، او حتى بوهم العودة إلى "نقاء" الدين.

بل تجاوزت التجارب الإسلامية في ادراك الأوهام الى الحيل الفقهية، اذ تطور ادراك الأوهام وتوزع في الثقافة الإسلامية بين المستوى الشعبي من الخرافة، والكرامة، والأسطورة، الى المستوى السياسي في الانتظار، الخلافة، المؤامرة، وفي المستوى الفقهي من التحايل، وسد الذرائع، واستنطاق النصوص.

إن أزمة الخيال والوهم في الفكر الإسلامي المعاصر ليست إلا مرآةً لأزمة أعمق، هي أزمة في العلاقة مع الممكن. فالعقل الذي يخشى الخيال، ويرتاب من الرمز، ويُقدّس الواقع المأزوم، هو عقل فقد القدرة على الحلم، لا لأنه مؤمن بالعقلانية، بل لأنه مأخوذ بهواجس البقاء في عالم متحول.

يتبع....