السياسة..المقال الخامس الدولة السلطانية..

السياسة.. المقال الخامس 

الدولة السلطانية.. 

د. مهند العلام 

10/12/2024

تقوم الدولة السلطانية على مفهومي الدولة كمؤسسة سياسية، وعلى التقدم العمراني بأوسع معانيه وتعني ايضا استقرار سياسي وحياة مدنية منظمة. واستقرار الدولة السلطانية عادة ما يؤدي الى تحلل أخلاقي، اذ العصبية تنتهي وتبدا الرفاهية والتمتع بلذات الاستقرار والحياة وتكون قاموسا للسلوك الفردي والاهتمام بالملذات الدنيوية.

في الدولة السلطانية يكون هناك مبدأ المساواة والتفوق للتحكم بالأخرين واستخدام ثروات الاخرين لحماية ومصلحة الدولة العالية وهذه من طبيعة الدعوة الاسلامية كما عند العباسيين والعثمانيين، وعلى عكسها تكون دولة الصراع السياسي وتأخذ صورة الجماعة ولا تعكس النموذج الفردي كما حدث في نهاية الدولة الاموية.

في اوائل الحضارة الاسلامية كان هنالك نضج فكري ادى الى حوار عقائدي، اسس لمبادئ لاسيما للدولة التي تحكم، فدولة المدينة المنورة كانت الجغرافيا فيها محدودة وكان المجتمع متجانسا، اي ان المجتمع آنذاك كان ذو اسرة سياسية واحدة، اذ الابوة والترابط العائلي.

بعد ذلك وبعد انتشار الدعوة بقي الذين قاموا بالفتوحات من العرب يمثلون القيادة كشعب قائد وهو الشعب العربي، فالقيادة عنده ليست الممارسة، ولكن تمثلت بالمثاليات المعنوية والحضارية، ثم بعد ذلك اخذت التجمعات الشعوبية كالعجم والترك السلاجقة والديلم يبرزون في عصر التوازن في عهد المعتصم اذ كان فيها التسامح بين الشعوب وليس سيادة شعب على شعب اخر هي الوظيفة الحضارية للسياسة العامة.

التوازن في الدولة يحتاج الى شخصيات قيادة ومؤسسات ثابتة تسمح لاستمرارية هذا التوازن، وهو يعني ايضا الرفاهية التي تعني الطمأنينة والاستقرار العيشي كتعبير عن التسامح، والتوازن يعني ايضا الترابط الفكري بين الواقع وبما يدور حول التقدم العمراني، وبالتالي جاء ما يعرف باتخاذ المدن كداعي لإقامة السياسة في العالم.

في اثناء عهد المعتصم برز احتياج المدينة لحاكم واحد كشرط اساسي لاستمرار الدولة ولظهور مقومات واسس الدولة السلطانية القوية اذ كانت هناك حركة عمرانية لا حدود لها حين انشات مدينة جديدة هي سامراء، وهذا التقدم العمراني كان يعكس الاستقرار السياسي وازدهار التجارة ونمو المال، وكان هناك سيادة مبدأ العدالة بين الرعية ونمو الحرف والصناعات وهذا ما ادى الى العناية بشان السلطان والسلطان واهميته بالنسبة للدولة وقوتها وفي تفصيل طبقات الناس واحوالهم واخلاقهم السياسية والقومية وفي التماسك السياسي والحماية الذاتية والحراسة القومية لإنقاذ المجتمع المسلم.

وكانت تعد سياسة التخطيط العمراني من التدبير وهو الاول والاساس لعمارة البلدان.... فهناك عمارة المزارع وعمارة الامصار، وتخطيط المدن حينما يكون المجتمع مستقرا وحيث الارجاء المتسعة تعبر عن الثقة والسكينة وتسيطر على العلاقة بين المواطن والدولة، وهذا يعني ان هناك تجانس ديمغرافي فضلا عن التخصص المهني.

اما الانسان والمتغير النفسي في اطار ونظم الدولة السلطانية، فقد فصل فيه فلاسفة السياسة المسلمين كثيرا، واختلاف الناس امر طبيعي سائد ولا يمكن لمجتمع او دولة ان تقوم على جنس او طبع او صفة واحدة فالاختلاف هو الطبيعي وكل من خالف تلك الطبيعة فشل، فالناس منهم القوي في المعاني ومنهم الضعيف ومنهم في الطباع ان كان في الغرض او الشهوة وهم لا يزيدون عن من فيه الزهد والتجرد، وهناك المؤثرون للآداب الدنيوية او الميالون للمطاعم والمشارب والجماع او الباءة والقبح او معاشرة الخوان او اقتناء المال او امتلاك الارض والعقار او الات الجميلة او علو المنزلة عند السلطان او الاحرار وهم من يعملون الخير او الهوام الذين يقترفون الشر او الشاكرين وهم من يشكرون المحسن او الحاقدين وهم الذين يسيئون او كافري النعمة وهم من ينكرون الاحسان او ذوي العقول وهم الصابرين على الاذى او الانذال وهم الذين يكافؤون الاحسان بالإساءة او الملائكة من الانس وهم من يحسنون من يسئ اليهم.

وهناك ايضا في افعال الانسان ما يعرف بالفساد السياسي وهي ممارسة دينية لأهداف انانية، وهناك احياء الفتن واماتتها وهي تعتمد على الذل والخوف والهيبة والغفلة، والضغينة، والطمع، والجراءة.

واركان المملكة السلطانية اربعة، هي السلطان والرعية والعدل والتدبير، منها عنصران بشريان هما السلطان والرعية بينما العدل والتدبير فحقائق معنوية وقيم سائدة... وهنا يأتي ربط الوجود السياسي بالاطار المثالي للجماعة السياسية.

فالسلطان هو السلطان الشخص الحاكم وادوات ملكه السلطة، وهذه السلطة تأتي اما عن طريق الابوة او عن طريق الهيمنة الكبرى او عن طريق الراي المتين. والسلطان هو القادر "فتعالى الله الملك الحق"، بينما عند غير المسلم هو الحاكم المستبد.

والسلطان هو السلطان المالك الذي هو الحاكم والذي يمتاز بالتدبير اي الرؤية الصالحة اي التوقع من منطلق مصلحة الامة وهذا التدبير يفرض المشورة، فالحاكم يعد نفسه لجميع الاحتمالات وهنا يأتي مفهوم التدبير اي تصور المستقبل. فالتدبير والسياسة والامر والنهي هي من واجبات الحاكم. وفي نفس الوقت القيادة والسلطة والعدالة والتدبير والسلوك كلها مرتبطة بالشرعية السياسية.

والسلطان يمثل السلطة الدينية، والسلاطين خصهم الله بكرامته ومكنهم على بعض من عباده، وهم حق للعامة واوجب عليهم الطاعة، وانما تكون السعادة العامة في تبجيل السلاطين وتعظيمهم وطاعتهم كما يقول فلاسفة السياسة، لكن جهل العامة بما يجب عليهم تجاه السلاطين وبما يجب على السلاطين تجاههم لاسيما في ظل الانظمة الحديثة للدول التي نشأت في بداية القرن العشرين جعلت هذه العلاقة غير مفهومة وغير محببة لكثير من الافراد والجماعات وبالتالي نشأ نوع من الرفض حولها بسبب هذا الجهل.

ففي تاريخنا الفقهي الطويل اهتم الفقهاء دوما وكثيرا بحقوق الراعي واهملوا حقوق الرعية، وانما كان ذلك اعتمادا على مشاركة الرعية واساليب مشاركتهم في الحكم والرقابة والحقوق المدنية والشورى وما الى ذلك.

لكن هذه من الضرورات الشرعية المجهولة على نطاق واسع، فالعالم يضطر الى سائس ومدبر ليدفع عنهم الاذى الواقع بعضهم على بعضهم الاخر ويقصر كل واحد للصناعة لمصلحة نفسه وغيره فيتم تعاضدهم وتعاونهم واستقامة امرهم باتفاقهم على السلطان الواحد، فكثرة الرؤساء تفسد السياسة، والسلطان الواحد يؤدي الى تماسك السلطة اي تماسك الصفوة والخاصة بمعنى الترابط بين الحاكم والمحكوم.

ان وظيفة الدولة تكون ببناء نظام سياسي يعبر عن المفاهيم والمثاليات، ذلك لان الدولة اداة بشرية لتحقيق المثالية وايضا الدولة تمكن المسلم من تحقيق ذاتيته من التفكير المستقل وايضا وظيفتها تحقيق العدالة نحو كل انسان مسلم او غير مسلم ووظيفتها ايضا نشر الدعوة اي التعامل الخارجي.

 بمعنى ان الدعوة ليست وظيفة او مسؤولية فردية او جماعية، بل هي وظيفة الدولة. وعادة للدولة كليات اساسية ومن اهم هذه الكليات الاساسية للدولة القيادة، وهي السلطة، والتي تنظم العلاقة بين الحقوق والواجبات، وترتبط السلطة بالعدالة والتدبير اي ان الحاكم الذي لا يعرف كيف يؤدي هذا الواجب تسقط عنه شرعيته السياسية كذلك ترتبط هذه الكليات بالسلوك والذي هو تعامل، وارادة، واعتدال، وتوازن.

والدولة في الاسلام هي حقيقة مجردة لا ترتبط لا بالزمان ولا بالمكان، ومعلوم عند الدارسين المحدثين ان وظيفتها الدفاع عن العقيدة.  لكن في الحقيقة ان وظيفة الدولة تتمثل ببناء نظام سياسي يعبر عن المفاهيم والمثاليات التي صاغها النص الشرعي ... لكن هذا لا يعني ان القران الكريم والسنة الشريفة والاجماع يفرضون نموذج سياسي محدد، وانما وضع النص المقدس مجموعة من التعاليم والمبادئ التي تسمح بالقول ان هذا النموذج او هذا الكيان يعبر عن تلك المثاليات.

ومن وظائف الدولة بناء ذلك النظام القادر على تحقيق ذلك النموذج المثالي ... فالدولة هي اداة بشرية لتحقيق المثالية السياسية عن طريق الارادة الجماعية، وبالتالي اي نظام سياسي يستطيع العقل البشري اكتشافه طالما انه يحقق التعاليم القرآنية والسنة والاجماع الفقهي فهو نظام سياسي صالح.

والوظيفة الاخرى على الدولة ان تمكن المسلم من تحقيق ذاتيته الفكرية اي ان النظام السياسي الاسلامي ليس هدفا في ذاته وانما اداة فرضها القران حتى يستطيع كل مسلم ان يحقق وجوده الديني والمدني عن طريق المثالية الاسلامية وعلى راي الماوردي في الاحكام السلطانية "الدولة تعمل لغايتين اقامة العدل وبناء نظام اقامة الصلاة وايتاء الزكاة".

والوظيفة الاخرى العدالة وهي محور القيم الاسلامية وهي ليست التزام حكومي او شرط لمن يمارس السلطة، بل هي واجب على الدولة كونها دولة. فقيمة العدالة وهي من القيم السياسية المهمة وترتبط من منظور التحليل السياسي بالحريات كقيمة وبالمساواة كواقع، وايضا بالفكر والممارسة وبالتطور الغربي للعدالة كقانون وبالآراء كقيمة بينما العدالة في الاسلام ترتبط بالقضاء وبالحياد وبكرامة الفرد ورفض المستبد.

اما اذا تمثلت العدالة كمحور للسلوك فهنا تكون قيمة او كوظيفة اي تعامل بين الناس والحرية في النهاية تمثل العدالة ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا)). والعدالة اما ان تكون قيمة اي تحكم بالسوك او نظام لتكون احد اركان المملكة ... ايضا العدالة تعني المساواة والطمأنينة والحرية وتعني ايضا الشرعية من الاختيار وايضا الطاعة من العدالة وكذلك الاستمرارية والنجاج تكون من العدالة ايضا. والعدالة عند اخوان الصفا هب الاخلاق الفردية والجماعية وعند ابن ابي الربيع السلوك والاخلاقيات الاجتماعية وتعني الاخلاق عند ابن مسكويه والرازي.

كذلك من وظائف الدولة الاخرى التدبير وهذا يعني نشر الدعوة اي ان الدولة لها واجب داخلي تجاه شعبها ووظيفة خارجية الى غير رعاياها اي خلق القناعة الاسلامية ولو بالسلاح.

ايضا من اهم تلك الكليات الاساسية للدولة هي السلطة، والسلطة مرتبطة بالدين عن طريق الخليفة او السلطان او المشاركة في الممارسة السياسية او في علاقة الخليفة بأعوانه. فالحاكم تمثله الخلافة بينما المذهب والملة والامة والاحزاب والفرق والطوائف والشيع فتمثل المحكوم. والعلاقة بين الدين والسلطة يتمثل في ان الدين يمثل الجوهر بينما السلطة فتمثل الاطار.

وشرعية السلطة انما تأتي من نشر الدعوة اي من التدبير او بمعنى اخر ما يعرف بالسياسة، والسلطة ليست عقد بين طرفين، كما يزعم البعض، وانما هي قائمة على اساس البيعة اي ان الاختيار مرتبط بالتدبير وبذلك تكون الموافقة عن كره او حب. ويتمثل شكل البيعة عن طريق ما يعرف بالوثيقة السياسية الدينية والتي هي تجسيد للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وهناك سلطات ثلاث للدولة، تتمثل في الاختيار اي الخليفة وبالإفتاء اي العلماء فالتشريع حق الفقيه ولا سلطان عليه. وبالفصل بين الخصومات اي القضاء ولذلك كان هناك ما يعرف بالفصل بين وظائف السلطات وتوزيع السلطات والفصل بين السلطات.

وهذه السلطات لها غطاء يعرف بالشرعية وعادة ما تكون دينية، وتكون ايضا شرعية سياسية عن طريق حركة سياسية وقد تأتي بصورة قانونية اي بنص قانوني او عن طريق الخروج من القانون وتكون غلبة المدافع هي التي تمثل تلك الشرعية.

والسلطة هي المنظمة للجماعة، بمعنى ان الجماعة كمفهوم يتبدل في اثناء فترات الحكم وحيثما تكون بينما السلطة فهي ثابتة ومرتبطة ببقاء الدولة.

فهل يمكن تطبيق مبادئ الدولة السلطانية في ظل التعددية الثقافية والدينية في العالم الحديث؟

وهل يمكن تحقيق العدالة كما يُفهم في تراث المسلمين ضمن نظم سياسية معاصرة لا تعتمد على المؤسسات فحسب وانما على الشركات؟

وما هي حدود السلطة في الدولة اليوم، وكيف يمكن منع استبدادها؟

انتهى..