الأبدية المغمورة من لوح الطوفان إلى فيض العصر الرقمي ...
د. مهند العلام
15/08/2025
تُعد قراءة القطع الأثرية القديمة نافذة مختلفة لفهم تطورات الحضارات البشرية، فهي تكشف عن تصورات الإنسان وإدراكه للزمن والسلطة والمصير، وتكشف نشوء الوعي التاريخي كحاجة لترتيب الماضي، هي تجربة فلسفية لفهم دورة التاريخ والوجود الإنساني، ففي كل كارثة درس، وفي كل نهاية هنالك بداية جديدة، وفي كل إبادة وطوفان مرآة لمستقبل يمكن للبشرية أن تصنعه، فإذا أحسنا قراءة التاريخ، وفهمنا رموزه، واستفدنا من قوانينه وسننه وحكمته فسنستطيع أن نواجه ما نراه في عالم اليوم بنفس واعية وقلب منفتح وعقل قادر على الإبداع والتجديد، وحتى صنع معاني جديدة للوجود الإنساني.
في المتحف البريطاني يرقد شاهد أثري WB 444يُعرف بـ "قائمة الملوك السومريين"، أو كما يسميه البعض بوثيقة ما قبل الطوفان، وهذا الشاهد يمثل إرثًا حضاريًا فريدًا من بلاد الهلال الخصيب، واكتسب شهرة عالمية بفضل نسخته الكاملة المنقوشة على لوح حجر الأردواز المعروف باسم لوح ويلكوك.
هذا الشاهد الذي دُوِّن بالخط المسماري في الألفية الثانية ق.م، لا يُعد مجرد سجل ملكي، بل هو بناء أسطوري-تاريخي متعامد مع الزمن، يُعيد صياغة مفهوم الماضي قبل الطوفان كـزمن مقدس تختلف قوانينه الجوهرية عن الزمن التاريخي اللاحق، ونافذة تطل على فهم الإنسان القديم لدورة التاريخ والحكم والوجود...
وما يميز هذا الشاهد ليس فقط قيمته التاريخية، بل كونه يقدم سردًا زمنيًا متسلسلًا للملوك السومريين منذ أقدم الأزمنة التي سبقت الطوفان، وصولًا إلى عصر نوح عليه السلام، حين يبدأ التاريخ المعروف وفق النصوص القديمة.
النص المكتوب باللغة السومرية، وتم نسخه وتداوله عبر فترات متعددة في الألفية الثانية قبل الميلاد، ويعكس تصور السومريين للطول الاستثنائي للحياة البشرية والحكم الملكي قبل الطوفان، ويسرد تتابع الملوك الذين تعاقبوا على السلطة قبل الطوفان الذين حكموا لفترات شاسعة تمتد أحيانًا لعشرات الآلاف من السنين، اذ انتقلت السلطة بين خمس مدن سومرية، وتعاقب ثمانية ملوك على الحكم قبل الكارثة الكونية، بمجموع فترة زمنية قدرها 241,200 سنة، وهذا التصور للزمن لا يشبه حسابنا اليوم، فهو زمن يتجاوز العمر البشري ويقارب الأبدية، زمن يعكس حلم السومريين بالسلطة والحكمة المستمرة.
قائمة الملوك السومريين المعروفة بوثيقة ما قبل الطوفان بهذا اللوح الأثري وتسجيل حكم ثمانية ملوك بمجموع تلك الأعوام بأرقام فلكية تتحدى المنطق البشري، ويطرح أسئلة جوهرية عن آليات تشكيل الذاكرة الجمعية ووظيفة السرد في مواجهة الكوارث الوجودية وهي تشمل على:
ألوليم (Alulim) – مدينة إريدو – حكم 28,800 سنة.
ألولانجار (Alalngar) – مدينة إريدو – حكم 36,000 سنة.
إن-من-لو-أنّا (En-men-lu-ana) – مدينة بادتيبيرا – حكم 43,200 سنة.
إن-من-غال-أنّا (En-men-gal-ana) – مدينة بادتيبيرا – حكم 28,800 سنة.
دوموزيد الراعي (Dumuzid, the Shepherd) – مدينة بادتيبيرا – حكم 36,000 سنة.
إن-سيب-زي-أنّا (En-sipazi-ana) – مدينة لارك – حكم 28,800 سنة.
إن-من-دور-أنّا (En-men-dur-ana) – مدينة زيمبور – حكم 21,000 سنة.
أوبار-توتو (Ubara-Tutu) – مدينة شوروباك – حكم 18,600 سنة
وتختتم قائمة الملوك قبل الطوفان بعبارة تصف الكارثة الكبرى... "ثم اجتاح الطوفان الأرض"، لتبدأ بعدها قائمة الملوك لما بعد الطوفان، والتي توثق بداية مرحلة تاريخية جديدة بعد إعادة بناء المجتمعات.
وهذه السردية تحتوي على رمزية عميقة عن الزمن والدورة التاريخية، وهذا الغموض لا يقلل من قيمة الوثيقة، بل يزيدها شاعرية، إذ تعكس حلم الإنسان بالخلود واستمرارية الحضارة رغم هشاشة وجوده أمام الطبيعة والكوارث.
فهي تتوافق جزئيًا مع ما ورد في القرآن الكريم عن طول دعوة نوح عليه السلام حين دعا قومه الف سنة الا خمسين عاما، وليس مجرد تطابق رقمي مع القائمة السومرية، بل يشير إلى بنية سردية مشتركة للزمن ما قبل الطوفان، وهذا يؤكد أن النص السومري ليس شاذاً، بل جزء من نسيج ثقافي إقليمي معقد، حيث تُستخدم المبالغة الزمنية كأداة لتعظيم البدايات التأسيسية للحضارات البشرية.
كذلك يفتح هذا الباب أمام تأملات عميقة، ويطرح أسئلة جوهرية حول إدراك الإنسان للزمن وكيفية قياسه عند القدماء، وهل كانت أعمار البشر قبل الطوفان كما تصورها النصوص؟ أم أن الحسابات كانت تختلف تمامًا عن تقويمنا اليوم؟ وهل هناك إمكانية في اختلاف حساب العمر والتقويم بين الحضارات القديمة وعصرنا الحالي؟ ام أن الوجود البشري قبل الطوفان كان يتسم بأطوال عمرية غير مألوفة؟ ام ان فترات الحكم الخيالية تعكس تصوراً دينياً لبدايات العالم؟ اذ في الثقافات الشرق أوسطية القديمة، كان الزمن الأول يُعتبر كاملاً ومطلقاً، يختلف جوهرياً عن الزمن المحدود للإنسان بعد الطوفان
ومن منظور أوسع، يمثل الطوفان بحسب الروايات الدينية والاسرائيليات حدثًا كارثيًا عالميًا، فهو ليس مجرد حدث مادي لكارثة كونية في هذه النصوص، بل يرمز إلى تحول جوهري في نمط حياة الإنسان، من الصيد والترحال إلى الزراعة والاستقرار وبناء المدن وإرسال الرسل والتوحيد الديني، إنه اللحظة التي يعيد فيها التاريخ نفسه، حيث تصبح النهاية بداية جديدة، والكوارث تشكل فرصة لإعادة البناء، واذ تُصاغ سرديات الإنسان من بقايا الكوارث.
إن دراسة مثل هذه الكتابات القديمة لا تقتصر على مجرد استرجاع أحداث الماضي، بل توفر إطارًا فلسفيًا لفهم الدورات التاريخية الطويلة.
تشير التجارب التاريخية إلى أن النهايات الكبرى غالبًا ما تولّد بدايات جديدة، فعلى سبيل المثال نهاية العصر الحجري وبداية الزراعة جاءت بعد كارثة بيئية، وهي مثال واضح على قدرة الإنسان على التكيف وإعادة بناء مجتمعه بعد أزمة كبرى، وبنفس المنطق تبدو اليوم التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية العميقة والثورة الرقمية في عصرنا الحالي بمثابة طوفان رمزي آخر قادر على إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العالمي، ويغمر كل حدود حياتنا، ويجبرنا على البحث عن شواطئ جديدة للبقاء والتجدد، فكما أعاد الطوفان القديم تشكيل المدن والمجتمعات، فإن التحولات الرقمية قد تعيد تشكيل الوعي الإنساني والعلاقات الاجتماعية وحتى مفهوم الهوية الذاتية.
والطوفانات المعاصرة ماهي إلا استعارة كبرى للتغير الجيولوجي-الاجتماعي الذي ينهي عالماً ليبدأ آخر، وعليه يمكن قراءة أزماتنا الراهنة عبر نموذج الطوفان السومري، فالطوفان المناخي وارتفاع منسوب المحيطات يهدد مدناً ساحلية، والطوفان الرقمي وفيضان المعلومات وانهيار القيم والحقيقة الموضوعية، والطوفان الوجودي وتحديات الذكاء الاصطناعي التي تُعيد تعريف "الإنسانية" نفسها، كلها تنبأ بولادة تاريخية.
في هذا السياق، تصبح رمزية الطوفان أداة فلسفية لفهم دورة التاريخ وإعادة تعريف الهوية الإنسانية، فكما أعاد الطوفان صياغة سرديات الإنسان القديم، فإن التحولات الراهنة، من التغير المناخي المتسارع إلى الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، تدفعنا إلى إعادة تقييم ماهية الإنسانية في عصر ما بعد الحداثة. فالتحولات المعاصرة ليست مجرد تغيرات تقنية، بل تمثل أزمات وجودية تحمل في طياتها إمكانات لإعادة بناء المجتمعات وإعادة صياغة القيم.
تُظهر دراسة قوائم الملوك السومريين أن الإنسان القديم كان يدرك قيمة استمرارية السلطة والحكمة التاريخية، ورغم طول الفترات الزمنية الرمزية، فإنها تعكس إدراكًا متقدمًا للدورات التاريخية وللحاجة إلى المرونة والتكيف مع الكوارث الكبرى. وعليه فإن التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو شبكة معقدة من الدورات والرموز والتجارب الإنسانية، حيث الكوارث تشكل نقاط تحول، والنهايات تمهد دائمًا لبدايات جديدة.
وفي هذا الإطار، يمكن أن تُقرأ الأزمة البيئية والاقتصادية العالمية الحالية كمرحلة "ما بعد الطوفان" الرقمية، اذ يشهد العالم انتقالًا جذريًا في أنماط العمل والتعليم والتفاعل الاجتماعي، مع تعزيز دور الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الإنتاجية والوعي البشري، فالتحولات المعاصرة تتطلب إعادة تعريف القيم والمبادئ الإنسانية الأساسية، تمامًا كما أعاد الطوفان القديم صياغة المجتمعات الأولى.
علاوة على ذلك، يتيح النظر إلى الماضي البعيد، مثل قوائم الملوك السومريين، استشراف مستقبل التحولات الكبرى، فالأرقام الهائلة التي سجلها السومريون، على الرغم من رمزية بعضها، تحمل درسًا فلسفيًا عن طول فترة التجربة الإنسانية وأهمية الحكمة المستمرة، ومن خلال قراءة التاريخ بشكل دوري وديناميكي، يصبح بالإمكان استخلاص رؤى علمية ومعرفية لمواجهة التحديات المستقبلية، سواء كانت بيئية، اقتصادية، ثقافية، أو تكنولوجية.
إن الرسالة الأعمق التي يمكن استخلاصها من هذه الوثيقة هي أن الإنسان قادر دائمًا على إعادة تعريف نفسه ومجتمعه بعد الأزمات الكبرى، وأن الطوفان، سواء كان ماديًا أو رمزيًا، ليس نهاية التاريخ، بل نقطة انطلاق لبداية جديدة. وفي عصرنا الحالي، يُعيد الطوفان الرمزي الحديث تشكيل فهمنا للزمن، للسلطة، وعلى إعادة التفكير في معنى الإنسانية والوجود والحرية الفردية والجماعية، ويطرح أسئلة حيوية حول هوية الإنسان في ظل الذكاء الاصطناعي والعولمة الرقمية.
في الختام، أن الفهم العميق للتاريخ وربطه بالحاضر لا يقتصر على المعرفة الأكاديمية، بل يمتد ليصبح تأملًا وجوديًا وفلسفيًا في معنى البشرية والخلود والدورة التاريخية، ولذا تمثل قائمة الملوك السومريين أكثر من مجرد سجل تاريخي؛ إنها مرآة لفهم الإنسان القديم لتاريخه، والزمن، والسلطة، والكوارث الكبرى، وتقدم لنا إطارًا فلسفيًا لمواجهة تحولات عصرنا المعاصر. فمن خلال دراسة الماضي وربطه بالحاضر، يمكن للإنسان أن يستشرف مستقبله بشكل أكثر وعيًا ومرونة، ويعيد تعريف مفاهيمه الأساسية حول الحياة، الحضارة، والبقاء في عالم متغير بسرعة. إن التاريخ، كما يتضح من هذه الوثيقة، ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو شبكة من الدروس والرموز والتجارب، تدعونا دائمًا إلى التأمل، التعلم، والاستعداد لما قد يحمله المستقبل من "طوفانات" جديدة، مادية أو رمزية.